هل يفقد الدولار الأمريكي قوته؟ وماذا يعني ذلك للمستثمرين؟

المهندس : خالد عبد المالك

هل يفقد الدولار الأمريكي قوته؟ وماذا يعني ذلك للمستثمرين؟

منذ بداية عام 2025 تضافرت عدة عوامل لخفض قيمة الدولار الأمريكي مقابل العملات الأخرى، حيث انخفض مؤشر الدولار الأمريكي الذي يتتبع العملة الأمريكية مقابل سلة من العملات الأخرى بنسبة 7.5% حتى الآن هذا العام.

كان هذا الانخفاض ملحوظًا بشكل خاص خلال اضطرابات السوق العالمية في أوائل أبريل، والتي أعقبت إعلان الرئيس “دونالد ترامب” عن رسوم جمركية صارمة ضد عشرات الدول، في أوقات تقلب السوق، عادةً ما ينظر المستثمرون العالميون إلى الدولار كملاذ آمن ولكن هذه المرة لم يكن الأمر كذلك.

في الخلفية، يشير المحللون إلى تضافر عوامل مستمرة قوضت من ثقة المستثمرين تجاه الدولار الأمريكي، وتشمل هذه العوامل المخاوف بشأن تباطؤ النمو الاقتصادي الأمريكي وارتفاع التضخم نتيجةً لارتفاع الرسوم الجمركية، بالإضافة إلى القلق المتزايد بين المستثمرين غير الأمريكيين بشأن السياسة المالية في الولايات المتحدة، وقد برز هذا الأمر بعد أن خفضت وكالة موديز للتصنيف الائتماني تصنيفها الائتماني للولايات المتحدة، مما أدى إلى انخفاض قيمة الدولار الأمريكي بعد انتعاش رافق انتعاش سوق الأسهم الأمريكية.

يقول “ستيف إنجلاندر” رئيس أبحاث العملات العالمية لمجموعة العشرة في ستاندرد تشارترد: “المهم هو ألا ينظر المستثمرون إلى هذه المسألة على أنها مجرد مسألة تتعلق بالرسوم الجمركية، بل إنها مسألة تتعلق بمجموعة أوسع نطاقًا من السياسات”.

يتوقع خبراء استراتيجيات أسواق تداول العملات استمرار انخفاض قيمة الدولار الأمريكي في الأشهر المقبلة، وقد يكون لضعف الدولار تداعيات على الأسواق في الولايات المتحدة وخارجها، ويشير الخبراء إلى أن الأسهم العالمية قد تشهد انتعاشًا بينما قد يتضرر المستوردون الأمريكيون، وفي ظل الرسوم الجمركية قد تضعف قوة الشركات الأمريكية التي تعمل في الأسواق الخارجية مع انخفاض أسعار السلع الأمريكية في الخارج، ومع ذلك، لا يتوقع الخبراء أن يفقد الدولار مكانته كعملة احتياطية عالمية في أي وقت قريب.

لماذا انخفض الدولار؟

لا شك أن خطر الحرب التجارية قد أثقل كاهل الدولار، ففي وقت ما في أواخر أبريل، خسر الدولار أكثر من 10% من قيمته مقابل اليورو والين الياباني، وعلى الرغم من استعادة الدولار بعض قيمته منذ ذلك الحين، إلا إنه لا يزال منخفضًا بشكل كبير مقابل معظم العملات الرئيسية في عام 2025.

لقد فاجأ نظام الرسوم الجمركية الصارم لإدارة ترامب المستثمرين، مما أثار توقعات بحدوث ركود وهدد بقلب آفاق التجارة العالمية رأسًا على عقب، كما أثّرت أسابيع من الجدل الدائر حول تطبيق الرسوم الجمركية على ثقة المستثمرين وتراجع الدولار بشكل حاد، يقول الخبراء: “لقد فقد مُخصّصو الأصول العالميون ثقتهم في قدرة الولايات المتحدة على إصدار مجموعة متماسكة من التدابير السياسية، لقد كان هناك قدر كبير من عدم اليقين المرتبط بصنع السياسات الأمريكية”.

ومع ذلك، يبدو أن هذه الحركة مدفوعة بشكل كبير بعملية إعادة توازن من جانب المستثمرين العالميين، فمع حلول عام 2025 كان المستثمرون العالميون يميلون بشكل كبير إلى الأصول الأمريكية كمجموعة، ووفقًا لاستطلاع مديري الصناديق العالمية الذي أجراه بنك أوف أمريكا، كان 36% من المستثمرين العالميين يميلون إلى زيادة وزن الأصول الأمريكية في ديسمبر وهو أعلى مستوى في تاريخ الاستطلاع، وبحلول مارس انقلب هذا الوضع تمامًا، حيث كان متوسط ​​مديري الصناديق يميلون إلى تقليل وزن الأصول الأمريكية بنسبة 23%.

ولكن لماذا هذا التغيير المفاجئ؟، مع حلول عام 2025 كان الإجماع على أن الولايات المتحدة ستنمو بوتيرة أسرع من الدول المتقدمة الأخرى وأن الأسهم الأمريكية ستستمر في الحصول على دفعة من نمو الذكاء الاصطناعي، ولهذا السبب كان الكثيرون يميلون إلى زيادة وزن الأصول الأمريكية.

ثم أعلن الرئيس “دونالد ترامب” عن حزمة تعريفات جمركية أشد بكثير مما توقعه المستثمرون، لم يُفضِ هذا إلى مزيد من عدم اليقين في التوقعات الاقتصادية فحسب، بل زاد أيضًا من خطر تركيز أي تباطؤ على الولايات المتحدة، فجأةً شعر المستثمرون العالميون الذين كانوا يُفرطون في الاستثمار في الأصول الأمريكية بالعجز ورغبوا في تنويع استثماراتهم بسرعة، وقد رأينا دليلاً على ذلك في استطلاع بنك أوف أمريكا المذكور أعلاه.

بشكلٍ ميكانيكي، عندما يُحوّل المستثمرون أموالهم من الأصول الأمريكية إلى دول أخرى، يُؤدي ذلك إلى انخفاض قيمة الدولار، على سبيل المثال: إذا باعت إحدى صناديق التقاعد أسهمًا في مايكروسوفت واشترت نستله فإن هذا ينطوي أيضًا على استبدال الدولار بالفرنك السويسري، لذلك، عندما رأينا هذا التحول الكبير بعيدًا عن الأسهم والسندات الأمريكية نحو الأصول الدولية، فمن المنطقي أن ينخفض ​​الدولار أيضًا.

النقطة هنا هي أن التحرك الأخير للدولار يُفسَّر بالاقتصاد الأساسي وليس بالسياسة، هناك رأي مفاده أن النمو الاقتصادي الأمريكي قد يكون أضعف مما كان متوقعًا سابقًا بسبب رسوم ترامب الجمركية، وقد تسبب ذلك في تحول في تخصيصات الاستثمارات، وهذا ليس تخليًا عن الدولار بل هو تحول تكتيكي من جانب مستثمري القطاع الخاص.

تخفيض تصنيف الدين الأمريكي

يُعدّ استدامة الوضع المالي للولايات المتحدة مصدر قلق كبير آخر، ومن المتوقع أن تدفع الأولوية السياسية القادمة لإدارة ترامب والمتمثلة في تخفيضات ضريبية شاملة وخفض الإنفاق الحكومي، بالديون المثقلة أصلًا إلى مستوى جديد.

خفضت وكالة موديز التصنيف الائتماني للولايات المتحدة من أعلى تصنيف لها، مشيرةً إلى عبء دين لا يُطاق ولا يُظهر أي بوادر انحسار، وقد صرّحت الوكالة بأن “الإدارات الأمريكية المتتالية والكونغرس أخفقوا في التوصل إلى اتفاق حول إجراءات فعالة للحد من العجز المالى السنوى الكبير وارتفاع تكاليف الفائدة”، وأوضحت كذلك: “نرى أن المقترحات المالية المطروحة حالياً لا تتضمن تخفيضات كبيرة ومستدامة على مدى سنوات في الإنفاق الإلزامي أو العجز”.

كتب “ديفيد ميريكل” كبير الاقتصاديين الأمريكيين في جولدمان ساكس في مذكرة للعملاء أن تخفيض التصنيف لن يُؤدي على الأرجح إلى عمليات بيع قسرية في سوق سندات الخزانة، ولكنه يُسلط الضوء على تدهور التوقعات المالية ويأتي في وقت تتكيف فيه الأسواق بالفعل مع المخاطر المالية، بمعنى آخر، يراقب المستثمرون عن كثب مؤشراتٍ على أن الولايات المتحدة لم تعد الملاذ الآمن الذي كانت عليه سابقًا، وقد يكون عبء الدين المتزايد الذي لا يُطاق علامةً تحذيريةً أخرى، إذا بدت الولايات المتحدة محفوفةً بالمخاطر في نظر المستثمرين الأجانب، فقد ترتفع أسعار الفائدة إذ يطلبون علاوةً أعلى لتعويض تلك المخاطر.

هل يمكن أن يفقد الدولار مكانته كعملة احتياطية عالمية؟

هذا سؤالٌ طُرح لعقود، وهو سؤالٌ منطقيٌّ الآن، ومع ذلك، من المهمّ تذكّر وجود أسبابٍ عديدةٍ وراء هيمنة الدولار، ليس فقط على الاحتياطيات الأجنبية ولا على التجارة العالمية أيضًا، فمعظم هذه الأسباب لم تتأثر بخطط ترامب للرسوم الجمركية، وهذه الأسباب هي كالأتي:

– أسواق مالية عميقة وسيولة: تفتخر الولايات المتحدة بامتلاكها أكبر الأسواق المالية وأكثرها سيولةً وسهولةً في العالم للأسهم والسندات والمشتقات، وهذا يُسهّل على المستثمرين والشركات العالمية التعامل واستثمار تريليونات الدولارات بكفاءة، كما يجعل الولايات المتحدة المكان الأنسب للشركات العالمية للتحوّط من مخاطر أسعار الطاقة أو المنتجات الزراعية.

– فواتير التجارة: تُصدر فواتير وتُسوّى الغالبية العظمى من التجارة الدولية وخاصةً السلع الأساسية مثل النفط بالدولار الأمريكي، بغض النظر عمّا إذا كانت الولايات المتحدة مُشاركةً مُباشرةً في هذه المعاملة.

– سهولة حركة الأموال: لا تفرض الولايات المتحدة أي ضوابط على رأس المال (على عكس دول مثل الصين)، مما يعني سهولة انتقال الأموال بين البنوك الأمريكية وغير الأمريكية، كما أن من الشائع أن تسمح البنوك غير الأمريكية بالإيداع بالدولار، مما يجعل استخدام الدولار أكثر سهولة.

– قاعدة كبيرة من المستثمرين والمستهلكين: إن الحجم الهائل للاقتصاد الأمريكي وسوقه الاستهلاكية يجعل الدولار محوريًا للتجارة العالمية.

– قلة البدائل: في حين تُعتبر عملات مثل اليورو أو ربما الرنمينبي الصيني، أحيانًا منافسين، إلا أن أيًا منهما لا يوفر حاليًا نفس المزيج من العمق والسيولة وقابلية التحويل والدعم المؤسسي الموثوق الذي يوفره الدولار على نطاق عالمي.

لقد ذكرنا في الأعلي العديد من هذه الأسباب التي تجعل الدولار يفرض هيمنته على العملات، وإذا نظرنا إليها نجد أن هذه الأسباب لم تتغير معظمها، السؤال الحالي هل يمكن أن تُسبب الأحداث الأخيرة تحولًا في التجارة نحو اليورو أو عملات أخرى؟ ربما في يحدث ذلك، لكن من غير المرجح أن يتغير وضع الدولار كعملة رئيسية في التجارة العالمية في أي وقت قريب.

ماذا لو ضعف الدولار أكثر؟

هل من الممكن أن ينخفض ​​الدولار أكثر من الآن؟ بالتأكيد، قد يستمر نزوح المستثمرين العالميين خاصةً إذا ازداد ضعف توقعات الاقتصاد الأمريكي، ومن المحتمل أيضًا أن تؤثر التحولات في سياسة الاحتياطي الفيدرالي مقارنةً بالبنوك المركزية الأخرى على الدولار، عندما تنخفض أسعار الفائدة بسرعة أكبر في دولة ما مقارنةً بدول أخرى، من الشائع أن تضعف تلك العملة.

ومع ذلك، بالنسبة للمستثمرين الأمريكيين، لا يُعدّ ضعف الدولار كارثةً بالضرورة، خاصةً في محافظهم الاستثمارية، إذا كنتَ تمتلك محفظة استثمارية متنوعة عالميًا تتضمن أسهمًا وسندات دولية فإن انخفاض الدولار يعزز في الواقع قيمة تلك الأصول الأجنبية بالدولار الأمريكي، فعندما يضعف الدولار تُترجم العوائد المحققة باليورو أو الين أو العملات الأخرى إلى المزيد من الدولارات، وبهذا المعنى، يوفر التنويع العالمي القياسي بالفعل تحوّطًا طبيعيًا ضد انخفاض قيمة الدولار لاستثماراتك.

هل يحتاج المستثمرون الأمريكيون إلى التحوّط من الدولار؟

هذا يقودنا إلى النقطة الحاسمة للأفراد المقيمين في الولايات المتحدة، إذا كنتَ مثل معظم الأمريكيين، فإن الغالبية العظمى من نفقاتك ( السكن والغذاء والرعاية الصحية والمرافق ) مُقوّمة بالدولار الأمريكي، فأنتَ لا تُواجه خطرًا مباشرًا بانخفاض قيمة عملتك المحلية بشكل كبير مقابل العملة التي تحتاجها في حياتك اليومية.

في حين أن ضعف الدولار قد يُؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع المستوردة وزيادة تكلفة السفر إلى الخارج، إلا أن نفقات معيشتك الأساسية تظل قائمة على الدولار، لذلك، فإن حاجة الأفراد الأمريكيين للتحوّط بشكل فعال ضد انخفاض قيمة الدولار نفسه ضئيلة، التأثير الرئيسي الذي ستشعر به سيكون من خلال قيمة استثماراتك الدولية (التي تستفيد من ضعف الدولار) واحتمال ارتفاع أسعار بعض السلع، غالبًا ما تُضيف محاولة تطبيق استراتيجيات تحوّط معقدة للعملات تكلفةً وتعقيدًا مع فائدة محدودة لمعظم المستثمرين المقيمين في الولايات المتحدة الذين يُركزون على الأهداف طويلة الأجل.

في الختام: التركيز على الأساسيات

في حين أن العناوين الرئيسية حول انخفاض قيمة الدولار قد تكون لافتة للنظر، من المهم الحفاظ على منظور واضح، يبدو أن ضعف الدولار مؤخرًا مرتبط بتحولات في توجهات المستثمرين أكثر منه بفقدان جوهري لدوره المهيمن عالميًا، بالنسبة للمستثمرين الأمريكيين يبقى النهج الأكثر عملية هو التركيز على استراتيجية استثمارية سليمة ومتنوعة عالميًا. يوفر هذا التنويع حماية كافية من تقلبات العملات دون الحاجة إلى تحوطات مباشرة معقدة وغير ضرورية في كثير من الأحيان، وهذا يسمح لك بالتركيز على أهدافك المالية طويلة الأجل.

 

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *